الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة. وفي القول الآخر لهما وهو قول يحيى بن سلام أنها مكية إلا عشر آيات من أولها، فإنها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نزلت بين مكة والمدينة وهي تسع وستون آية. {الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} قوله }الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}تقدم القول فيها. وقال ابن عباس [في قوله }الم}]: المعنى أنا الله أعلم. وقيل: هو اسم للسورة. وقيل: اسم للقرآن. }أحسب}استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن }أن يتركوا}في موضع نصب بـ }حسب}وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه و}أن}الثانية من }أن يقولوا}في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا والجهة الأخرى أن يكون على التكرير؛ والتقدير }الم أحسب الناس أن يتركوا}أحسبوا }أن يقولوا آمنا وهم يفتنون}قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام؛ كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين؛ قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك وإذا أعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر قلت: ما أحسن ما قال ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر؛ رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: قوله {ولقد فتنا الذين من قبلهم}أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه و" قوله {فليعلمن الله الذين صدقوا}أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم وقد مضى هذا المعنى في {البقرة}وغيرها قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه وقد علم أنه سيقع وقال النحاس: فيه قولان - أحدهما - أن يكون {صدقوا}مشتقا من الصدق و{الكاذبين}مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق ويكون المعنى؛ فليبينن الله والذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق وهي الصلب والكاذبين مشتقا من كذب إذا انهزم فيكون المعنى؛ فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا؛ كما قال الشاعر: فجعل {ليعلمن}في موضع فليبينن مجازا وقراءة الجماعة}فليعلمن}بفتح الياء واللام وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قال النحاس ويحتمل ثلاثة معان: الأول: أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا؛ بمعنى يوقفهم على ما كان منهم الثاني: أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره؛ فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين أي يفضحهم ويشتهرهم؛ هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر وذلك في الدنيا والآخرة: الثالث أن يكون ذلك من العلامة؛ أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} قوله {أم حسب الذين يعملون السيئات}أي الشرك. {أن يسبقونا}أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل. {ساء ما يحكمون}أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شيء و{ما}في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون ويجوز أن تكون {ما}في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم وهذا قول الزجاج وقدرها ابن كيسان تقديرين آخرين خلاف ذينك: أحدهما: أن يكون موضع {ما يحكمون}بمنزلة شيء واحد كما تقول: أعجبني ما صنعت؛ أي صنيعك؛ فـ {ما}والفعل مصدر في موضع رفع التقدير؛ ساء حكمهم والتقدير الآخر أن تكون {ما}لا موضع لها من الإعراب وقد قامت مقام الاسم لساء وكذلك نعم وبئس قال أبو الحسن بن كيسان: وأنا أختار أن أجعل لـ {ما}موضعا في كل ما أقدر عليه؛ نحو قوله عز وجل قوله {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت}{يرجو}بمعنى يخاف من قول الهذلي في وصف عسال: وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه؛ ذكره النحاس قال الزجاج: معنى {يرجو لقاء الله}ثواب الله و{من}في موضع رفع بالابتداء و{كان}في موضع الخبر وهي في موضع جزم بالشرط و{يرجو}في موضع خبر كان والمجازاة {فإن أجل الله لآت}{وهو السميع العليم}. قوله {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه}أي ومن جاهد في الدين وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات فإنما يسعى لنفسه؛ أي ثواب ذلك كله له؛ ولا يرجع إلى الله نفع من ذلك. {إن الله لغني عن العالمين}أي عن أعمالهم وقيل: المعنى؛ من جاهد عدوه لنفسه لا يريد وجه الله فليس لله حاجة بجهاده قوله {والذين آمنوا وعملوا الصالحات}أي صدقوا {لنكفرن عنهم سيئاتهم}أي لنغطينها عنهم بالمغفرة لهم {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعات ثم قيل: يحتمل أن تكفر عنهم كل معصية عملوها في الشرك ويثابوا على ما عملوا من حسنة في الإسلام ويحتمل أن تكفر عنهم سيئاتهم في الكفر والإسلام ويثابوا على حسناتهم في الكفر والإسلام {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} قوله {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} خيرا بها كأنما خافونا أي يوصينا أن نفعل بها خيرا؛ كقوله {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين، وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} قوله {ومن الناس من يقول آمنا بالله}الآية نزلت في المنافقين كانوا يقولن آمنا بالله {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس}أي أذاهم {كعذاب الله}في الآخرة فارتد عن إيمانه وقيل: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذية في الله {ولئن جاء نصر من ربك}أي للمؤمنين {ليقولن}هؤلاء المرتدون {إنا كنا معكم}وهم كاذبون فقال الله لهم}أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين}يعني الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم. وقال مجاهد:نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلي الشرك وقال عكرمة: كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلي بدر فقتل بعضهم فأنزل الله {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون، وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} قوله {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا}أي ديننا {ولنحمل خطاياكم{جزم على الأمر قال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء؛ أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم كما قال: أي إن دعوت دعوت. قال المهدوي: وجاء وقوع {إنهم لكاذبون}بعده على الحمل على المعنى؛ لأن المعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر وقع عليه التكذيب كما يوقع عليه الخبر قال مجاهد: قال المشركون من قريش نحن وأنتم لا نبعث فإن كان عليكم وزر فعلينا؛ أي نحن نحمل عنكم ما يلزمكم والحمل ههنا بمعنى الحمالة لا الحمل على الظهر و"روى أن قائل ذلك الوليد بن المغيرة. {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}يعني ما يحمل عليهم من سيئات من ظلموه بعد فراغ حسناتهم روي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في {آل عمران} قلت: هذا مرسل وهو معنى حديث أبي هريرة خرجه مسلم ونص {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون، فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} قوله {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما}ذكر قصة نوح تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي ابتلي النبيون قبلك بالكفار فصبروا وخص نوحا بالذكر؛ لأنه أول رسول أرسل إلي الأرض وقد امتلأت كفرا على ما تقدم بيانه في هود وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح على ما تقدم في هود عن الحسن قال النحاس: يقال لكل كثير مطيف بالجميع من مطر أو قتل أو موت طوفان {وهم ظالمون}جملة في موضع الحال. و{ألف سنة}منصوب على الظرف {إلا خمسين عاما}منصوب على الاستثناء من الموجب وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول؛ لأنه مستغنى عنه كالمفعول فأما المبرد أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض كأنك قلت استثنيت زيدا. قوله {فأنجيناه وأصحاب السفينة}معطوف على الهاء والهاء والألف في {جعلناها}للسفينة أو للعقوبة أو للنجاة؛ ثلاثة أقوال. {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون، وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين، أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} قوله {وإبراهيم}قال الكسائي{وإبراهيم}منصوب بـ {أنجينا}يعني أنه معطوف على الهاء وإجاز الكسائي أن يكون معطوفا على نوح والمعنى وأرسلنا إبراهيم وقول ثالث: أن يكون منصوبا بمعنى واذكر إبراهيم. {اعبدوا الله}أي أفردوه بالعبادة {واتقوه}أي اتقوا عقابة وعذابه {ذلكم خير لكم}أي من عبادة الأوثان {إن كنتم تعلمون}. قوله {إنما تعبدون من دون الله أوثانا}أي أصناما قال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة الجوهري: الوثن الصنم والجميع وثن وأوثان مثل أسد وآساد {وتخلقون إفكا}قال الحسن: معنى {تخلقون}تنحتون فالمعنى إنما تعبدون أوثانا وأنتم تصنعونها وقال مجاهد: الإفك الكذب والمعنى تعبدون الأوثان وتخلقون الكذب وقرأ أبو عبدالرحمن}وتخلقون}وقرئ}تُخلّقون}بمعنى التكثير من خلق و{تخلقون}من تخلق بمعنى تكذب وتخرص وقرئ}إفكا}وفيه وجهان: أن يكون مصدرا نحو كذب ولعب والإفك مخففا منه كالكذب واللعب وأن يكون صفة على فعل أي خلقا أفكا أي ذا إفك وباطل و{أثانا}نصب بـ {تعبدون}و{ما}كافة ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل و{ما}أسماء لآن {تعبدون}صلته وحذفت الهاء لطول الاسم وجعل أوثان خبر إن فأما {وتخلقون إفكا}فهو منصوب بالفعل لا غير. وكذا {لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق}أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلي الله فإياه فأسألوه وحده دون غيره. {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم}فقيل: هو من قوله إبراهيم أي التكذيب عادة الكفار وليس على الرسل إلا التبليغ. قوله {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق}قراءة العامة بالياء على الخبر والتوبيخ لهم وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قال أبو عبيد: لذكر الأمم كأنه قال أو لم ير الأمم كيف وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي}تروا}بالتاء خطابا؛ لقوله {وإن تكذبوا{. وقد قيل{وإن تكذبوا}خطاب لقريش ليس من قول إبراهيم. {ثم يعيده}يعني الخلق والبعث وقيل: المعنى أو لم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفني ثم بعيدها أبدا وكذلك يبدأ خلق والإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا وخلق من الولد ولدا وكذلك سائر الحيوان أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة {إن ذلك على الله يسير}لأنه إذا أراد أمر قال له كن فيكون. {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون، وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} قوله {قل سيروا في الأرض}أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض {فانظروا كيف بدأ الخلق}على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم وأنظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وأثارهم كيف أهلكهم؛ لتعلموا بذلك كمال قدرة الله {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}وقرأ أبو عمرو وابن كثير النشاءة بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفة والرآفة وشبهه الجوهري: أنشأه الله خلقه والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبي عمرو بن العلاء {إن الله على كل شيء قدير. يعذب من يشاء}أي بعدله {ويرحم من يشاء}أي بفضله {وإليه تقلبون}ترجعون وتردون. {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء}قال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجزين الله وهو غامض في العربية؛ للضمير الذي لم يظهر في الثاني وهو كقول حسان: أراد ومن يمدحه وينصره سواء؛ فأضمر من؛ وقال عبدالرحمن بن زيد ونظيره قوله سبحانه قوله {وقال}إبراهيم {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا}وقرأ حفص وحمزة}مودةَ بينكم}وابن كثير وأبو عمرو والكسائي}مودةٌ بينِكم}والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والأعمش}مودةٌ بينَكم}الباقون {مودةُ بينَكم}فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه؛ ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما: أن المودة ارتفعت على خبر إن وتكون {ما}بمعنى الذي والتقدير إن الذي أتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدأ أي وهي مودة أو تلك مودة بينكم والمعنى ألهتكم أو جماعتكم مودة بينكم قال ابن الأنباري}أوثانا}وقف حسن لمن رفع المودة بإضمار ذلك مودة بينكم ومن رفع المودة على أنها خبر إن لم يقف والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون {مودة}رفعا بالابتداء و{في الحياة الدنيا}خبره؛ فأما إضافة {مودة}إلى {بينكم}فإنه جعل {بينكم}اسما غير ظرف والنحويون يقولون جعله مفعولا على السعة وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف؛ لعلةٍ ليس هذا موضع ذكرها ومن رفع {مودة}ونونها فعلى معنى ما ذكر و{بينكم}بالنصب ظرفا ومن نصب {مودة}ولم ينونها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل {إنما}حرفا واحدا ولم يجعلها بمعنى الذي ويجوز نصب المودة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير وقصدت فلانا مودة له {بينكم}بالخفض ومن نون {مودة}ونصبها فعلى ما ذكر {بينكم}بالنصب من غير إضافة قال ابن الأنباري: ومن قرأ}مودةً بينكم}و{مودة بينكم}لم يقف على الأوثان ووقف على الحياة الدنيا ومعنى الآية جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا}تتبرأ الأوثان من عبادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} قوله {فآمن له لوط}لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردا وسلاما قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته وآمنت به سارة وكانت بنت عمه {وقال إني مهاجر إلى ربي}قال النخعي وقتادة: الذيقال {إني مهاجر إلى ربي}هو إبراهيم عليه السلام قال قتاده هاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ وامرأته سارة قال الكلبى: هاجر من أرض حران إلى فلسطين وهو أول من هاجر من أرض الكفر قال مقاتل: هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة وقيل: الذيقال {إني مهاجر إلى ربي}لوط عليه السلام قوله {ووهبنا له إسحاق}أي منّ الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولد وإنما وهب له إسحاق من بعد إسماعيل ويعقوب من إسحاق {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه ووحد الكتاب لأنه أراد المصدر كالنبوة والمراد التوراة والإنجيل والفرقان فهو عبارة عن الجمع فالتوارة انزلت على موسى من ولد إبراهيم والإنجيل على عيسى من ولده؛ والفرقان على محمد من ولده صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. {وآتيناه أجره في الدنيا}يعني اجتماع أهل الملل عليه؛ قاله عكرمة و روى سفيان عن حميد بن قيس قال: أمر سعيد بن جبير إنسانا أن يسأل عكرمة عن قوله جل ثناؤه}وآتيتاه أجره في الدنيا}فقال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منا؛ فقال سعيد بن جبير: صدق وقال قتادة: هو مثل قوله {ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، قال رب انصرني على القوم المفسدين، ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين، إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون، ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون} قوله {ولوطا إذ قال لقومه}قال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا قال: وهذا الوجه أحب إلي ويجوز أن يكون المعنى واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا أو محذرا {أئنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين}تقدم القراءة فيها. {وتقطعون السبيل}قيل: كانوا قطاع الطريق؛ قال ابن زيد وقيل: كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة؛ حكاه ابن شجرة وقيل: إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال قال وهب بن منبه أي استغنوا بالرجال عن النساء. قلت: ولعل الجميع كان فيهم فكانوا يقطعون الطريق لأخذ الأموال والفاحشة ويستغنون عن النساء بذلك. قوله {وتأتون في ناديكم المنكر}النادي المجلس واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه؛ فقالت فرقة: كانوا يخذفون النساء بالحصى ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم {وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} قوله {وإلى مدين أخاهم شعيبا}أي وأرسلنا إلى مدين وقد تقدم. {وارجوا اليوم الآخر}وقال يونس النحوي: أي اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال. {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}أي لا تكفروا فإنه أصل كل فساد والعثو والعثي أشد الفساد عثي يعثى وعثا يعثو بمعنى واحد وقد تقدم. وقيل {وارجوا اليوم الآخر}أي صدقوا به فإن القوم كانوا ينكرونه. {وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين} قوله {وعادا وثمود}قال الكسائي: قال بعضهم هو راجع إلى أول السورة؛ أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عادا وثمود قال: وأحب إلي أن يكون معطوفا على {فأخذتهم الرجفة}وأخذت عادا وثمودا وزعم الزجاج: أن التقدير وأهلكنا عادا وثمود وقيل: المعنى واذكر عادا إذ أرسلنا إليهم هودا فكذبوه فأهلكناهم وثمودا أيضا أرسلنا إليهم صالحا فكذبوه فأهلكناهم بالصيحة كما أهلكنا عادا بالريح العقيم. {وقد تبين لكم}أي تبين لكم يا معشر الكفار {من مساكنهم}بالحجر والأحقاف آيات في إهلاكهم فحذف فاعل التبين. {وزين لهم الشيطان أعمالهم}أي أعمالهم الخسيسة فحسبوها رفيعة. {فصدهم عن السبيل}أي عن طريق الحق. {وكانوا مستبصرين}فيه قولان: أحدهما وكانوا مستبصرين في الضلالة قاله مجاهد والثاني: كانوا مستبصرين قد عرفوا الحق من الباطل بظهور البراهين وهذا القول أشبه؛ لأنه إنما يقال فلان مستبصر إذا عرف الشيء على الحقيقة قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم وقيل: أتوا ما أتوا وقد تبين لهم أن عاقبتهم العذاب. {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} قوله {وقارون وفرعون وهامان}قال الكسائي: إن شئت كان محمولا على عاد وكان فيه ما فيه وإن شئت كان على {فصدهم عن السبيل}وصد قارون وفرعون وهامان وقيل: أي وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل {فاستكبروا في الأرض}عن الحق وعن عباد الله. {وما كانوا سابقين}أي فائتين. وقيل: سابقين في الكفر بل قد سبقهم للكفر قرون كثيرة فأهلكناهم. {فكلا أخذنا بذنبه}قال الكسائي}فكلا}منصوب بـ {أخذنا}أي أخذنا كلا بذنبه. {فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا}يعني قوم لوط. والحاصب ريح يأتي بالحصباء وهي الحصى الصغار وتستعمل في كل عذاب {ومنهم من أخذته الصيحة}يعني ثمودا وأهل مدين. {ومنهم من خسفنا به الأرض}يعني قارون {ومنهم من أغرقنا}قوم نوح وقوم فرعون. {وما كان الله ليظلمهم}لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر. {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} قوله {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت}قال الأخفش{كمثل العنكبوت}وقف تام ثم قصتها فقال {اتخذت بيتا}قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن {اتخذت بيتا}صلة للعنكبوت كأنه قال {كمثل التي اتخذت بيتا}فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول وهو بمنزلة قوله ويروي: قال الجوهري والهطال: اسم جبل والعنكبوت الدويبة المعروفة التي تنسج نسجا رقيقا مهلهلا بين الهواء ويجمع عناكيب وعكاب وعكب وأعكب وقد حكي أنه يقال عنكب وعكنباة؛ قال الشاعر: وتصغر فيقال عنيكب وقد حكي عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى وقال عطاء الخراساني: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان جالوت يطلبه ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نهى عن قتلها ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر ومنع الخمير يورث الفقر. قوله {إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء}{ما}بمعنى الذي {ومن}للتبعيض ولو كانت زائدة للتوكيد لانقلب المعنى والمعني: إن الله يعلم ضعف ما يعبدون من دونه وقرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب}يدعون}بالياء وهو اختيار أبي عبيد لذكر الأمم قبلها الباقون بالتاء على الخطاب. قوله {وتلك الأمثال}أي هذا المثل وغيره مما ذكر في - البقرة - و- الحج - وغيرهما {نضربها}نبينها {للناس وما يعقلها}أي يفهمها {إلا العالمون}أي العالمون بالله كما {خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين} قوله {خلق الله السماوات والأرض بالحق}أي بالعدل والقسط وقيل: بكلامه وقدرته وذلك هو الحق. {إن في ذلك لآية}أي علامة ودلالة {للمؤمنين}المصدقين. {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} قوله {اتل}أمر من التلاوة والدؤوب عليها وقد مضى في - طه - الوعيد فيمن أعرض عنها وفي مقدمة الكتاب الأمر بالحض عليها والكتاب يراد به القرآن. {وأقم الصلاة}الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها وقد تقدم بيان ذلك في - البقرة- فلا معنى للإعادة. قوله {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}يريد إن الصلوات الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب؛ كما قال عليه السلام: قلت: ومنه الحديث الصحيح: قلت: لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد فإن الموت ليس له سن محدود ولا زمن مخصوص ولا مرض معلوم وهذا مما لا خلاف فيه وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة أرتعد وأصفر لونه فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل كصلاتنا - وليتها تجزي فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس ولحسن والأعمش قولهم: قلت: وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث: قوله {ولذكر الله أكبر}أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن؛ وهو اختيار الطبري {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون، وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} اختلف العلماء في قوله {ولا تجادلوا أهل الكتاب}فقال مجاهد: هي مُحكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته؛ رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة وقوله على هذا}إلا الذين ظلموا منهم}معناه ظلموكم وإلا فكلهم طلمة على الإطلاق وقيل: المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب المؤمنين كعبدالله بن سلام ومن آمن معه. {إلا بالتي هي أحسن}أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك وقوله على هذا التأويل}إلا الذين ظلموا}يريد به من بقي على كفره منهم كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم والآية على هذا أيضا محكمة وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال قوله قوله {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} قوله {وما كنت تتلو من قبله من كتاب}الضمير في {قبله}عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله ولا تختلف إلى أهل الكتاب؛ بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك فلو كنت ممن يقرأ كتابا ويخط حروفا {لارتاب المبطلون}أي من أهل الكتاب وكان لهم في ارتيابهم متعلق وقالوا الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ؛ فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم وزالت الريبة والشك. قلت: قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أميا لا يكتب؛ وبكونه أميا في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحدون وانحسمت الشبهة فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية وإنما الآية ألا يكتب والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا وإنما معنى كتب وأخذ القلم؛ أي أمر من يكتب به من كتابه وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون كاتبا. قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى فإن قيل: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} قوله {بل هو آيات بينات}يعني القرآن قال الحسن: وزعم الفراء في قراءة عبدالله {بل هي آيات بينات}المعنى بل آيات القران آيات بينات قال الحسن: ومثله {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون، قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} قوله {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه}هذا قول المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه هلا أنزل عليه آية كآيات الأنبياء قيل: كما جاء صالح بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى؛ أي {قل}لهم يا محمد{إنما الآيات عند الله}فهو يأتي بها كما يريد إذا شاء أرسلها وليست عندي {وإنما أنا نذير مبين}وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي آية بالتوحيد وجمع الباقون وهو اختيار أبي عبيد؛ لقوله {قل إنما الآيات عند الله} قوله {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}هذا جواب لقولهم {لولا أنزل عليه آيات من ربه}أي أو لم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا ولوا أتيتهم بآيات موسى وعيسى لقالوا: سحر ونحن لا نعرف السحر؛ والكلام مقدور لهم ومع ذلك عجزوا عن المعارضة وقيل: إن سبب نزول هذه الآيات ما قوله {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا}أي قل للكذبين لك كفي بالله شهيدا يشهد لي بالصدق فيما أدعيه من أنى رسوله وأن هذا القرآن كتابه. {يعلم ما في السماوات والأرض}أي لا يخفي عليه شيء وهذا احتجاج عليهم في صحه شهادته عليهم؛ لأنهم قد أقروا بعلمه فلزمهم أن يقروا بشهادته. {والذين آمنوا بالباطل}قال يحيى بن سلام: بإبليس وقيل: بعبادة الأوثان والأصنام؛ قاله ابن شجرة. {وكفروا بالله}أي لتكذيبهم برسله وجحدهم لكتابه وقيل: بما أشركوا به من الأوثان وأضافوا إليه من الأولاد والأضداد. {أولئك هم الخاسرون}أنفسهم وأعمالهم في الآخرة. {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون، يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون} قوله {ويستعجلونك بالعذاب}لما أنذرهم بالعذاب قالوا لفرط الإنكار: عجل لنا هذا العذاب وقيل: إن قائل ذلك النضر بن الحارث وأبو جهل حين قالا قوله {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم}قيل: هو متصل بما هو قبله؛ أي يوم يصيبهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم وإنماقال {من تحت أرجلهم}للمقاربة وإلا فالغشيان من فوق أعم؛ كما قال الشاعر: وقال آخر: {ويقول ذوقوا}قرأ أهل المدينة والكوفة{نقول}بالنون الباقون بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون، كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} قوله {يا عباديَ الذين آمنوا إن أرضي واسعة}هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة - في قول مقاتل والكلبي - فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده؛ أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة؛ لإظهار التوحيد بها وقال ابن جبير وعطاء: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق وقاله مالك وقاله مجاهد}إن أرضي واسعة}فهاجروا وجاهدوا وقال مطرف بن الشخير: المعنى إن رحمتي واسعة وعنه أيضا: إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض قال سفيان الثوري: إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملأ فيها جرابك خبزا بدرهم وقيل: المعنى: إن أرضي التي هي أرضى الجنة الواسعة. {فاعبدون}حتى أورثكموها. {فاعبدون}{إياي}منصوب بفعل مضمر أي فاعبدوا إياي فاعبدون فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني والفاء في قوله {فإياي}بمعنى الشرط أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره؛ لأن أرضي واسعة. قوله {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون}تقدم في -آل عمران-. وإنما ذكره ها هنا تحضيرا لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا فحقر الله شأن الدنيا أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل. وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى؛ وذكر الجزاء الذي ينالونه. ثم نعتهم بقوله {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}وقرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف{يا عبادي}بإسكان الياء وفتحها الباقون {إن أرضي}فتحها ابن عامر وسكنها الباقون لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لها سكنا
سقاهم الموت كأسا غير صافية صيرهم تحت أطباق الثرى رهنا قوله {لنبوئنهم من الجنة غرفا}وقر أ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي}لنثوينهم}بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الإقامة؛ أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها وقرأ رويس عن يعقوب والجحدري والسلمي}ليبوئنهم}بالياء مكان النون الباقون {لنبوئنهم}أي لننزلنهم {غرفا}جمع غرفة وهي العلية المشرفة قوله {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم} قلت: وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم اتفق البخاري عليه ومسلم وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين وقد " قلت: وليس بشيء؛ لإطلاق لفظ الدابة وليس مستعملا في العرف إطلاقها على الآدمي فكيف على النبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى هذا في - النمل - عند قوله {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون، الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم} قوله {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض}الآية. لما عير المشركون المسلمين بالفقر وقالوا لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء وكان هذا تمويها، وكان في الكفار فقراء أيضا أزال الله هذه الشبهة. وكذا قول من قال إن هاجرنا لم نجد ما ننفق. أي فإذا اعترفتم بأن الله خالق هذه الأشياء فكيف تشكون في الرزق فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العبد؛ ولهذا وصله بقوله {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له}. {فأنى يؤفكون}أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي. {الله يبسط الرزق لمن يشاء}أي لا يختلف أمر الرزق بالإيمان والكفر فالتوسيع والتقتير منه فلا تعيير بالفقر فكل شي بقضاء وقدر. {إن الله بكل شيء عليم}من أحوالكم وأموركم قيل: عليم بما يصلحكم من إقتار أو توسيع. {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون، وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} قوله {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء}أي من السحاب مطرا {فأحيا به الأرض من بعد موتها}أي جدبها وقحط أهلها {ليقولن الله}أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الإعادة وإذ قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين؛ فكرر تأكيدا {قل الحمد لله}أي على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته. وقيل {الحمد لله}على إقرارهم بذلك وقيل: على إنزال الماء وإحياء الأرض. {بل أكثرهم لا يعقلون}أي لا يتدبرون هذه الحجج {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب}أي شيء يلهى به ويلعب أي ليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول؛ كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات قال بعضهم: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها وأنشد: وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور
فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور
عفا الله عمن صير الهم واحدا وأيقن أن الدائرات تدور قلت: وهذا كله في أمور الدنيا من المال والجاه والملبس الزائد على الضروري الذي به قوام العيش والقوة على الطاعات وأما ما كان منها لله فهو من الآخرة وهو الذي يبقى كماقال قوله {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها وزعم أبو عبيدة: أن الحيوان والحياة والحي بكسر الحاء واحد كما قال: وغيره يقول: إن الحي جمع على فعول مثل عصي والحيوان يقع على كل شيء حي وحيوان عين في الجنة وقيل: أصل حيوان حييان فأبدلت إحداهما واوا؛ لاجتماع المثلين {لو كانوا يعلمون}أنها كذلك. {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون} قوله {فإذا ركبوا في الفلك}يعني السفن وخافوا الغرق {دعوا الله مخلصين له الدين}أي صادقين في نياتهم وتركوا عبادة الأصنام ودعاءها {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}أي يدعون معه غيره وما لم ينزل به سلطانا وقيل: إشراكهم أن يقول قائلهم لولا الله والرئيس أو الملاح لغرقنا فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين خلقه. قوله {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا}قيل: هما لام كي أي لكي يكفروا ولكي يتمتعوا وقيل {إذا هم يشركون}ليكون ثمرة شركهم أن يجحدوا نعم الله ويتمتعوا بالدنيا وقيل: هما لام أمر معناه التهديد والوعيد أي أكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا ودليل هذا قراءة أُبيّ {وتمتعوا}ابن الأنباري: ويقوي هذا قراءة الأعمش ونافع وحمزة {وليتمتعوا}بجزم اللام النحاس {وليتمتعوا}لام كي ويجوز أن تكون لام أمر؛ لأن أصل لام الأمر الكسر إلا أنه أمر فيه معنى التهديد ومن قرأ{وليتمتعوا}بإسكان اللام لم يجعلها لام كي؛ لأن لام كي لا يجوز إسكانها وهي قراءة ابن كثير والمسيبي وقالون عن نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الباقون بكسر اللام وقرأ أبو العالية}ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}تهديد ووعيد. {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} قوله {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا}قال عبدالرحمن بن زيد: هي مكة وهم قريش أمنهم الله تعالى فيها {ويتخطف الناس من حولهم}قال الضحاك: يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا والخطف الأخذ بسرعة وقد مضى في - القصص -وغيرها فأذكرهم الله عز وجل هذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة أي جعلت لهم حرما أمنا أمنوا فيه من السبي والغارة والقتل وخلصتهم في البر كما خلصتهم في البحر فصاروا يشركون في البر ولا يشركون في البحر فهذا تعجب من تناقض أحوالهم. {أفبالباطل يؤمنون}قال قتادة: أفبالشرك وقال يحيى بن سلام: أفبإبليس. {وبنعمة الله يكفرون}قال ابن عباس: أفبعافية الله وقال ابن شجرة: أفبعطاء الله وإحسانه وقال ابن سلام: أفبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى وحكى النقاش: أفبإطعامهم من جوع وأمنهم من خوف يكفرون وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام. قوله {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا}أي لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا وإذا فعل فاحشةقال {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } قوله {والذين جاهدوا فينا}أي جاهدوا الكفار فينا أي في طلب مرضاتنا وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال قال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العباد وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون وقد قال صلى الله عليه وسلم:
|